• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الآداب الموضوعية والنفسية للتفسير

د. محمّد حسين الصغير

الآداب الموضوعية والنفسية للتفسير

◄إنّ الموضوعية في تفسير القرآن شرط أساسي وليس شرطاً احترازياً، فهو أساسي لتلقي معاني القرآن كما أرادها الله تعالى، وهو احترازي من النزوع إلى الهوى، والإغراق في الخيال، والتعرّض لشطحات الميول، فالملتقي يريد معرفة هذا النص على حقيقته والغوص إلى أعماقه، والمفسر الحقّ هو الباحث الذي يحقّق هذه الرغبة الملحة، وينهض بهذه المهمّة الصعبة، متطلّعاً إلى الأسرار القرآنية ناصعة أنيقة، ليحوز رضا الله – تعالى -، ويظفر بإقبال الناس، ويبلغ هدفه الأسنى.

وقد يبدو هذا الملحظ - أوّل الأمر- تعجيزياً وليس الأمر كذلك، فإن قيل ما السبيل في تفسير الآيات التي يستفيد منها أهل المذاهب أدلتهم وأصول عقائدهم فيجاب: إنّ سرد ذلك مجرداً عن نزعة التعصب لا يعتبر من هذا الباب، وعرض جميع ذلك باعتباره منبعاً ثراً من منابع التشريع الإسلامي، لا يعني جرّ القرآن إلى ما ليس منه، بل هو أمر يدعو إلى الاعتزاز كونه ثروة علمية تضاف إلى التراث، ولكن الأمر يختلف جذرياً إذا سردت الصفحات وسودت الأوراق على أنّ المراد هذا دون ذاك تنكيلاً بمذهب، أو اعتداداً برأي دون برهان، فهذا ما لا يسمح به أدبياً وموضوعياً في تفسير القرآن العظيم، لأنّ هذا الملحظ كشف عن مراد نفسه، وتفسير القرآن كشف عن مراد الله تعالى، وهذا لا يُمانع أن يختار رأياً يمثّل وجهة نظره بعد التمحيص وإعمال الفكر والاجتهاد، يؤكد فيه ما يستفيده بالذات دون قطع على الله أنّ هذا هو المراد دون غيره من كلام الله، وإذا تحرج المفسر في هذا الإطار، والتحرج هنا ضرورة قائمة كان ما يتوصل إليه من التفسير دليلاً على الكشف والعرض والبيان، وليس مجالاً للهوى والمذهبية، وبذلك فلا يُعدّ متعدياً لحدود التفسير الموضوعي، وإنما يعتبر عارضاً لبعض الوجوه المحتملة دون قطع بأحدها، إذ قد يكون المراد الحقيقي غيرها، إلّا أنّه قد اجتهد ضمن الضوابط والموازين العقلية أو الفنية أو اللغوية باختيار الأفضل، أو بإثبات الأظهر.

وقد تكون هذه المهمّة عسيرة لا تتهيأ، وأداؤها صعباً لا يركب، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن نظرة فاحصية إلى ما أصاب المسلمين من الخور والانهيار تدعو إلى ضرورة تعبيد هذا المنهج، وتخفّف من وطأة مشاقه ومتاعبه، فقد شجّعت لغة الاختلاف المتعمد والهوى المتبع ألسنة المستشرقين وأعداء الإسلام للنيل من كرامة الإسلام وعظمة القرآن، وكان الطريق أمامهم سهلاً وميسّراً، إذ استغلوا هذا الخلاف لنفث سمومهم، ونشر دعواهم الباطلة ضد الإسلام والمسلمين من جهة، وضد القرآن الكريم من جهة ثانية حتى تجرأ بعضهم فذهب إلى القول بتحريف القرآن نتيجة نقطة الضعف هذه في عدم الموضوعية الفكرية للتفسير، وعلى هذا فالالتزام بالموضوعية تنفي هذه الشبه من جهة، وتجعل المفسر خالص العمل لوجهه تعالى من جهة أخرى، وتلخص تفسير القرآن من التبعية من جهة ثالثة، وعند ذاك يجزم المتلقي للتفسير بسلامة قصد المفسر ونبل غايته، فيستقبل ذلك استقبالا تلقائياً يحبب إلى ذائقته القرآن، ويعنيه على الاستجابة الهادفة لأغراضه ومراميه.

إنّ لغة التهجم والاتهام التي نلمسها في كثير من أقوال المفسرين مع القطع بأنّها لا تجدي نفعاً، ولا تغير معتقداً، ولا تثني إنساناً عن رأي يتبنّاه: فإنّها لا تمثّل القرآن، وأخلاق القرآن، ولغة القرآن، بل القرآن نفسه يشنّ حرباً شعواء على هذا النوع من الإسفاف واللامبالاة بشعور الآخرين مخطئين كانوا أو مصيبين، فضلاً عن كونه يدفع بالشباب إلى الهروب من حضيرة الدِّين، والتنكّر لمبادئ القرآن، فتحتضنه البدع، وتتلاقفه الضلالات.

ورمزية التفسير الموضوعي: أن يلتقي الهدف الديني بالهدف الفني، ففي الوقت الذي نحافظ فيه على جوهر القرآن من التمحّل، نحافظ أيضاً على حقيقة اللغة من الضياع، فتتجمع من هذا وذاك قوّة متجانسة ترعى القرآن واللغة معاً، وتحوطهما بسياج من التحرز والحفاظ.

لقد سبق في علم الله - تعالى - شرف اللغة العربية، فشرّف بها نزول القرآن بلغتها، فبقاء العربية منوط ببقاء القرآن، وبقاء القرآن منوط بسلامة تفسيره، وسلامة تفسيره مقترنة بآداب المفسر، وآداب المفسر كما تقتضي الإحاطة والحذر واليقظة والعلم، فكذلك تقتضي الموضوعية، والموضوعية أساس التفسير، وما سوى ذلك فأهواء تتبع، ومذاهب تبتدع.

والمراد بالآداب النفسية مجموعة الصفات والمَلَكات التي يتنامى بها الكمال الذاتي في تهذيب النفس وصيانتها عن الزيغ والانحراف بحيث يطمئن معها إلى الجانب الروحي عند الإنسان فضلاً عما يتمتع به من حيطة وحذر، وما يناسب ذلك إصلاح السريرة، ولزوم الطاعة ونقاء الضمير، مما يُهيء للنفس التدبّر في القرآن، والتفكّر في أسراره، من صحّة في الاعتقاد، وإخلاص في النية، وتفويض الأمور إلى اللهِ، وطلب العون منه في مجال المعرفة والكشف والأاستزادة العلمية.

إنّ ما يكون بهذا السبيل يمكن إجمال معالمه بالمؤشرات الآتية على سبيل المثال والنموذج لا الحصر والاستقصاء.

أ- صحة الاعتقاد:

وهذا أمر ضروري تمليه طبيعة الإيمان بأنّ القرآن هو الكتاب المنزل على نبيّه المرسل دون زيادة أو نقصان، والنظر إليه بمنظور مقدس، ليكون الباحث في مضامينه مفسراً جادّاً، تنبعث عقيدته من داخل النفس الإنسانية فيصبح ما يخطه يمينه نابعاً من صميم ضميره، حقيقة لا تقبل جدلاً، وعقيدة لا يداخلها ريب، يعمل بهديها ويستضاء بألقها. أمّا الغوغائية في التفسير والتي لا تمت إلى العقيدة بصلة الوعي الهادف فهي نوع من الهذر والثرثرة يعبر بهما عن ثقافة سطحية تعتمد التحريف تارة، والتضليل تارة أخرى، ويكون همها خلط الحابل بالنابل، وهدفها إلقاء الحبل على الغارب، دون أداء أمانة أو تحمّل مسؤولية، وهنا يكمن الخطر الهدام الذي يهدّد تراث الأُمّية ويستهدف مجدها الشامخ، لهذا يجب مراعاة ذلك بل مجابهته بالتحرز من كيد المنحرفين، وجملة من شبهات المستشرقين، وكثير من حملات ذوي العاهات النفسية والفكرية ممن يديفون السم بالعسل.

ب- الأخلاص والتفويض:

وإذا كان الاعتقاد خالصاً من كلّ شائبة، جاء إخلاص النية مكملاً للنفس الإنسانية من كلّ نقيصة، لا سيما إذا اقترن الإخلاص بالتوكل على اللهِ والتفويض إليه، بتخليص النفس من الآفات والدواعي، وليتسم العمل بصحّة الخاطر والفطرة، ونقاء القلب والسريرة، وأبرز مظاهر ذلك الحريجة في الدِّين، الورع عن المعاصي، والزهد في الدنيا، والتوجه نحو الله في السرّاء والضراء، وهذا ما يهب الإنسان من المواهب معيناً لا ينضب، فقد ورد في الأثر: "العلم نور يقذفه الله في قلب مَن يشاء" على أن يكون هذا القلب مجانباً لهواه، متبعاً لأمر مولاه، متفقهاً في الكتاب للهِ، يعمل بعلمه، ويعلّمه غيره، فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) أنّه قال: "مَن تعلّم العلم، وعمل به، وعلّم لله: دعي في ملكوت السماوات عظيماً، فقيل: تعلّم لله وعمل لله وعلم لله".

ج- التدبّر والتفكّر:

التدبّر في آيات القرآن، والتفكّر بمعانيه ومراميه، من أبرز سمات المفسر الهادف، فكلّ آيات القرآن تدعو إلى التدبّر، وكلّ معانيه تستأهل التفكّر، وبهما يستعصم المفسر من الخطأ في التفسير، ويتحرز عن الإسفاف في التقرير، فتكون أحكامه عن بصيرة، وتصدر أراؤه عن دراية، إذ طبيعة التدبّر الواعي والتفكّر الجاد مصاحبة التأمّل واليقظة والترصد، وكلّ أولئك مؤشرات دقيقة تستفرع الجهد، وتتحكّم في الاجتهاد، وإذا استفرغ المفسر جهده، وأقام على الاجتهاد حقائق ما يتوصل إليه، كانت النتائج أكثر أصالة، والآراء أسد تصويباً، ووصل التفسير إلى الكشف مراد الله.

علم الموهبة:

وقد رجّح السيوطي (911 هجري) أن يتمتع المفسر نفسياً بعلم الموهبة، وهو ليس من العلوم المكتسبة، ولا من الفنون التعليمية المحصلة، وإنما المراد به الفيض الربّاني والعلم الديني استناداً إلى قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (الكهف/ 65) وإليه الإشارة بحديث: "مَن عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم" وهو بهذا علم يورّثه الله تعالى لمن عمل بما علم.

ولعلّ المراد بعلم الموهبة: الإيحاءات التي تعترض خاطر الإنسان وتحتشد في ذهنه، فيصيبها في تفسيره دون تلقيها من أحد، أو اكتسابها من جهة، بل هي انقداح بالفكر، وبداهة من الفطرة تشقّ طريقها إلى النفس استئناساً بشفافيتها ونقائها، ويكون مصدر ذلك حينئذ هو الله تعالى بالموهبة والإيحاء، لا بالكسب والمعرفة، ولا يتأتى ذلك لكلّ فرد، ولا يفوز به إلّا الصفوة المختارة في كلّ جيل، وملاك ذلك هو الصفاء الروحي والتوجه نحو الله.►

 

المصدر: كتاب المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق

ارسال التعليق

Top